فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازًا باعتبار الأسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة، وكلمة لولا إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها، وحرف النفي والاسم الواقع بعدها عند سيبويه مبتدأ خبره محذوف وجوبًا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده، والتقدير ولولا فضل الله ورحمته حاصلان، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرًا لكونه في الأغلب خاليًا عن العائد إلى المبتدأ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى الخ، و{لَكُنتُم} جواب لولا ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبًا، وقيل: إنه لازم إلا في الضرورة كقوله:
لولا الحياء ولولا الدين عبتكم ** ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى

وجاء في كلامهم بعد اللام قد، كقوله:
لولا الأمير ولولا خوف طاعته ** لقد شربت وما أحلى من العسل

وقد جاء أيضًا حذف اللام وإبقاء قد نحو لولا زيد قد أكرمتك ولم يجيء في القرآن مثبتًا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 4 2] جواب لولا قدم عليها. اهـ.

.قال الفخر:

لقائل أن يقول كلمة {لَوْلاَ} تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، فهذا يقتضي أن انتفاء الخسران من لوازم حصول فضل الله تعالى فحيث حصل الخسران وجب أن لا يحصل هناك لطف الله تعالى.
وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئًا من الألطاف الدينية وذلك خلاف قول المعتزلة: أجاب الكعبي بأنه تعالى سوى بين الكل في الفضل لكن انتفع بعضهم دون بعض، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم: لولا أن أباك فضلك لكنت فقيرًا، وهذا الجواب ضعيف لأن أهل اللغة نصوا على أن: {لولا} تفيد اتنفاء الشيء لثبوت غيره وبعد ثبوت هذه المقدمة فكلام الكعبي ساقط جدًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، أي رجعتم إلى العصيان بعد ما شاهدتم تلك الآيات بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحِلْمُه بأفضاله لعَاجَلكُم بالعقوبة، وأحلَّ عليكم عظيمَ المصيبة ولخَسِرَتْ صفقتُكم بالكُلِّيَة. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم}.
قال ابن عرفة: {ثُمَّ} إما لبعدها ما بين منزلة الإيمان والكفر أو للمهلة حقيقة.
قيل لابن عرفة: الحقيقة متعذرة فإن {من} لابتداء الغاية، وليس بين أول أزمنة البعدية وآخر أزمنة أخْذِ الميثاق تراخ بوجه؟
قال ابن عرفة: الأولية مقولة بالتشكيك في أزمنة البعدية.
قيل لابن عرفة: هذا يرجح أن المراد أخذنا ميثاق آبائكم لأن المخاطبين لما أسلموا لم يرتد منهم أحد؟
فقال ابن عرفة: يفهم هذا كما يفْهم في قوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النور إِلَى الظلمات} لأنه لم يحصل لهم النور فقط، لكن لما كانت أدلته والآثار التي هي سبب فيه سهلة مُتيسرة قريبة لفهمهم لا مشقة عليهم فيها فصاروا كأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل لحصول أثره أي شرائطه وأسبابه، فعدم إيمانهم كأنه ردّة وخروج من النور إلى الظلمات.
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار، بل فضل الله راجع إلى قبول التّوبة، ورحمته راجعة إلى نفس التوبة، أو أنّ فضل الله راجع إلى الثواب والإنعام، ورحمته أعم من ذلك تتناول رفع المؤلم فقط، أو دفعه مع جلب الملائم، فهو من عطف الأعم على الأخص. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}.
بعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى لنا كيف أمر اليهود بأن يتذكروا المنهج ولا ينسوه.. وكان مجرد تذكرهم للمنهج يجعلهم يؤمنون بالإسلام وبرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه مكتوب عندهم في التوراة ومذكورة أوصافه.. ماذا فعل اليهود؟
يقول الحق تبارك وتعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ}.. أي أعرضتم عن منهج الله ونسيتموه ولم تلتفتوا إليه.
{فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} ما هو الفضل وما هي الرحمة؟ الفضل هو الزيادة عما تستحق.. يقال لك هذا حقك وهذا فضل مني أي زيادة على حقك.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سدّدوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدْخِلُ أحدًا الجنةَ عملهُ قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».
فإذا تساءلت كيف يتم هذا؟ وكيف أنه لا أحد يدخل الجنة بعمله؟ نقول نعم لأن عمل الدنيا كله لا يساوي نعمة من نعم الله على خلقه؛ فأنت تذكرت العمل ولم تتذكر الفضل.. وكل من يدخل الجنة فبفضل الله سبحانه وتعالى.. حتى الشهداء الذين أعطوا حياتهم وهي كل ما يملكون في هذه الدنيا.. يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170].
فإذا كان هؤلاء الشهداء وهم في أعلى مراتب الجنة قد دخلوا الجنة بفضل الله.. فما بالك بمن هم أقل منهم أجرا.. والله سبحانه وتعالى له فضل على عباده جميعا.. واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243].
أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبه لغفران الذنوب. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه لولا هذا الفضل لبني إسرائيل.. ولولا أنه فتح لهم باب الرحمة والمغفرة ليعودوا مرة أخرى إلى ميثاقهم ومنهجهم.. لولا هذا لكانوا من الخاسرين الذين أصابهم خسران مبين في الدنيا والآخرة.. ولكن الله تبارك وتعالى بفضل منه ورحمة قد قادهم إلى الدين الذي حفظه الله سبحانه وتعالى بقدرته من أي تحريف.. فرفع عنهم عبء حفظ الكتاب.. وما ينتج عن ذلك من حمل ثقيل في الدنيا.. ورحمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.. مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وأعطاهم فضل هذا الدين الخاتم الذي حسم قضية الإيمان في هذا الكون.. ومع هذه الرحمة وهذا الفضل.. بأن نزل إليهم في التوراة أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعد بعثه.. فتح لهم بابا حتى لا يصبحوا من الخاسرين.. ولكنهم تركوا هذا الباب كما تولوا عن دينهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} التولّي تفعل من الوَلْي، وأصله: الإعراض والإدبار عن الشَّيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعًا ومجازًا وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطُّور، وإيتاء التوراة.
قوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} لولا هذه حرف امتناع لوجود، والظَّاهر أنها بسيطة وقال أبو البَقَاءِ: هي مركّبة من لو، ولا ولو قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، ولا للنفي، والامتناع نفي في المعنى، وقد دخل النفي بلا على أحد امتناعي لو والامتناع نفي في المعنى، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجابًا، فمن ثمَّ صار معنى لولا هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلْف ما لا فائدة فيه، وتكون لولا أيضًا حرف تحضيض فتختص بالأفعال، وسيأتي الكلام علهيا إن شاء الله تعالى.
ولولا هذه تختص بالمبتدأ، ولا يجوز أن يليها الأفعال، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل؛ كقوله: الوافر::
وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزًا ** لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي

وتأويله أن الأصل: ولولا أن تحسبوا فلما حذفت أن ارتفع الفعل؛ كقوله: الطويل::
أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى

أي: أَنْ أَحْضُرَ.
والمرفوع بعدها مبتدأ خلافًا للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر، وللفراء حيث قال: مرفوع بنفس لولا.
وخيره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير: ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله: الوافر::
يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ ** فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ

حيث أثبت خبرها بعدها، هكذا أطلقوا، وبعضهم فَصَّل فقال: إن كان خبر ما بعدها كوننًا مطلقًا، فالحذف واجب، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام، وإن كان كونًا مقيدًا فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا، فإن لم يدلِّ عليه دليل، وجب ذكره؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَوْلاَ قَوْمُكِ حَديثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ»، وقول الآخر: الطويل::
فَلَوْلاَ بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا

وإن دلّ عليه دليل جاز الذِّكر والحذف نحو: لولا زيد لَغُلِبْنَا: شجاع، وعليه بيت المعرّي المتقدم.
وقال أبو البَقَاءِ: ولزم حذف الخبر للعلم به، وطول الكَلاَم فإن وقعت أن بعدها ظهر الخبر كقوله: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] فالخبر في اللّفظ لأن، وهذا الَّذِي قاله موهم، ولا تعلّق لخبر أن بالخبر المحذوف، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء، والتقدير: فلولا كونه مسبحًا حَاضِرٌ أو موجودٌ.
فأي فائدة في ذكره لهذا؟ والخبر يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى في مواضعها، وقد تقدم عنى الفضل عند قوله: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47].
قوله: {لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين} اللاَّم جواب لولا والعم أن جوابها إن كان مثبتًا، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها، ويقلّ حذفها؛ قال: البسيط::
لَوْلاَ الحَيَاءُ وَلَوْلاَ الذِّينُ عِبْتُكُمَا ** بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي

وإن كان منفيًّا فلا يخلو: إما أن يكون حرف النَّفي ما أو غيرها، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو: لولا زيد لم أقم، ولن أقوم، لئلا يتوالى لامان، وإن كان بما فالكثير الحَذْف، ويقلّ الإتيان بها، وهكذا حكم جواب لو الامتناعية، وقد تقدم عند قوله: {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]، ولا محلّ لجوابها من الإعراب.
و{من الخاسرينَ} في محلّ نصب خبر {كان}، و{من} للتبعيض. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (65):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولًا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وهذا هو النوع الأول. اهـ.

.قال البقاعي:

ثم جاءت قصة المعتدين في السبت مؤكدة لذلك إذ كان حاصلها أنهم لما ضيعوا أمرًا واحدًا من أوامره واستخفوا به وهو تحريم السبت عذبهم بعذاب لم يعذب به أحدًا من العالمين فقال: ولقد وأقرب من ذلك أن يقال إنه سبحانه لما ذكرهم بنعمة العفو الحافظ لهم من الخسران قرعهم بحلافة أخرى لهم خذل بها فريقًا منهم حتى غلبهم الخسران فما ضروا إلاّ أنفسهم مقسمًا على أنهم بها عالمون ولها مستحضرون فقال تعالى عاطفًا على ما تقديره: {لقد علمتم} جميع ذلك من عهودنا وما ذكرنا من الإيقاع بمن نقض من شديد وعيدنا ومن التهديد على ذلك بضرب الذلة وما تبعها من أنواع النكال و{لقد} أي وعزتي لقد {علمتم الذين اعتدوا} أي تعمدوا العدوان {منكم في السبت} بأن استحلوه وأصل السبت القطع للعمل ونحوه {فقلنا} أي فتسبب عن اعتدائهم أن قلنا بما لنا من العظمة.
{لهم كونوا} بإرادتنا {قردة خاسئين} أي صاغرين مطرودين جمع خاسئ من الخسئ وهو طرد بكره واستخباث، وسبب ذلك أن الله تعالى أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلا السبت، فألزمهم الله إياه وجعله لهم محنة وحرم عليهم فيه العمل، فاصطادوا على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم وحمله سبحانه فتجاهروا بالمعصية مسخ منهم من عصى بالمباشرة ومن سكت عن النهي عن المنكر. اهـ.